فصل: تفسير الآيات (28- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (23- 25):

{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
{وَنَحْنُ الوارثون} أي الباقون بعد هلاك الخلق كله.
وقيل للباقي {وارث} استعارة من وارث الميت، لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اجعله الوارث منا» {وَلَقَدْ عَلِمْنَا} من استقدم ولادة وموتاً، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر. وقيل: المستقدمين في صفوف الجماعة والمتسأخرين.
وروي أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت {هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي هو وحده القادر على حشرهم، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} باهر الحكمة واسع العلم، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب، وقد أحاط علماً بكل شيء.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)}
الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة. وقيل: هو تضعيف (صل) إذا أنتن. والحمأ: الطين الأسود المتغير. والمسنون: المصوّر، من سنة الوجه، وقيل: المصبوب المفرغ، أي: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. وقيل: المنتن، من سننت الحجرعلى الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين، ولا يكون إلا منتنا {مّنْ حَمَإٍ} صفة لصلصال، أي: خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق {مَّسْنُونٍ} بمعنى مصور، أن يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر {والجآن} للجن كآدم للناس. وقيل: هو إبليس.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {والجأن}، بالهمزة {مِن نَّارِ السموم} من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام. قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ.

.تفسير الآيات (28- 44):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} واذكر وقت قوله {سَوَّيْتُهُ} عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها. ومعنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وأحييته، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. واستثنى إبليس من الملائكة؛ لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب كقولك: رأيتهم إلا هنداً. و{أبى} استئناف على تقدير قول قائل بقول: هلا سجد؟ فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه. وقيل: معناه ولكن إبليس أبى. حرف الجر مع (إن) محذوف. وتقديره {مَا لَكَ} في {أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} بمعنى أيّ غرض لك في إبائك السجود. وأي داع لك إليه. اللام في {لأسْجُدَ} لتأكيد النفي. ومعناه: لا يصحّ مني وينافي حالي. ويستحيل أن أسجد لبشر {رَّجِيمٍ} شيطان من الذين يرجمون بالشهب، أو مطرود من رحمة الله؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة. ومعناه: ملعون؛ لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها. والضمير في {مِنْهَا} راجع إلى الجنة أو السماء، أو إلى جملة الملائكة. وضرب يوم الدين حداً للعنة، إما لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم، كقوله {مَا دَامَتِ السموات والأرض} [هود: 107] في التأبيد. وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين، من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما يُنسى اللعن معه. و{يَوْمِ الدين} و{يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و{يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] في معنى واحد، ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة. وقيل: إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت؛ لأنه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف {بِمَا أغويتني} الباء للقسم. و (ما) مصدرية وجواب القسم {لأُزَيِّنَنَّ} المعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم. ومعنى إغوائه إياه: تسبيبه لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به، ونحو قوله {بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] في أنه إقسام، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله، وقد فرق الفقهاء بينهما. ويجوز أن لا يكون قسماً، ويقدر قسم محذوف، ويكون المعنى: بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم {فِى الأرض} في الدنيا التي هي دار الغرور، كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} [الأعراف: 176] أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض، ولأوقعن تزييني فيها، أي: لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها. ونحوه:
يَجْرَحْ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي

استثنى المخلصين؛ لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. أي {هذا} طريق حق {عَلَىَّ} أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته: وقرئ: {عليّ} وهو من علو الشرف والفضل {لَمَوْعِدُهُمْ} الضمير للغاوين. وقيل: أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين، وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين. وقرئ: {جزء}، بالتخفيف والتثقيل.
وقرأ الزهري: {جزّ}، بالتشديد؛ كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي، كقولك: خبّ في خبء، ثم وقف عليه بالتشديد، كقولهم: الرجل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

.تفسير الآيات (45- 48):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)}
المتقي على الإطلاق: من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها {ادخلوها} على إرادة القول.
وقرأ الحسن: {أدخلوها} {بِسَلامٍ} سالمين أو مسلماً عليكم: تسلم عليكم الملائكة. الغل: الحقد الكامن في القلب، من انغل في جوفه وتغلغل، أي: إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر. نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم.
وعن عليّ رضي الله عنه: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
وعن الحرث الأعور: كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له عليّ: مرحباً بك يا ابن أخي. أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} فقال له قائل: كلا، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: فلمن هذه الآية لا أمّ لك؟ وقيل: معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غل، وألقى فيها التوادّ والتحاب. و{إِخْوَانًا} نصب على الحال. و{على سُرُرٍ متقابلين} كذلك.
وعن مجاهد. تدور بهم الأسرة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.

.تفسير الآيات (49- 50):

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه {فِى عِبَادِى} تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: غفور لمن تاب، وعذابه لمن لم يتب. وعطف {وَنَبّئْهُمْ} على نبئ عبادي، ليتخذوا ما أحل من العذاب يوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم.

.تفسير الآيات (51- 56):

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}
{سَلاَماً} أي نسلم عليك سلاماً، أو سلمت سلاماً {وَجِلُونَ} خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت.
وقرأ الحسن: {لا توجل} بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرئ: {لا تأجل}. {ولا تواجل}، من واجله بمعنى أوجله. وقرئ: {نبشرك} بفتح النون والتخفيف {إِنَّا نُبَشّرُكَ} استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل: أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. يعني {أَبَشَّرْتُمُونِى} مع مس الكبر، بأن يولد لي. أي: أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر {فَبِمَ تُبَشّرُونَ} هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب، كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشرونني أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير مقصور في العادة فبأي شيء تبشرون يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء؛ لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا يكون صلة لبشر، ويكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني: بأي طريقة تبشرونني بالولد، والبشارة لا طريقة لها في العادة. وقوله {بشرناك بالحق} يحتمل أن تكون الباء فيه صلة، أي: بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وقرئ: {تبشرونَ}، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع، والأصل تبشرونن، {وتبشرونِّ} بإدغام نون الجمع في نون العماد. وقرئ: {من القنطين} من قنط يقنط، وقرئ: و {من يقنط}، بالحركات الثلاث في النون، أراد: ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون، كقوله: {لا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] يعني: لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله.

.تفسير الآيات (57- 60):

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}
فإن قلت قوله تعالى: {إِلا ءالَ لُوطٍ} استثناء متصل أو منقطع؟ قلت، لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم، فيكون منقطعاً؛ لأنّ القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين، فيكون متصلاً، كأنه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم، كما قال {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين} [الذاريات: 36].
فإن قلت: فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت: نعم، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً. ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرميّ. في أنه في معنى التعذيب والإهلاك، كأنه قيل: إنا أهلكنا قوماً مجرمين، ولكن آل لوط أنجيناهم. وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، فلا يكون الإرسال مخلصاً بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل.
فإن قلت: فقوله {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} بم يتعلق على الوجهين؟ قلت: إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر (لكنّ) في الاتصال بآل لوط، لأنّ المعنى. لكن آل لوط منجون، وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم فما حال آل لوط، فقالوا: إنا لمنجوهم.
فإن قلت: فقوله: {إِلاَّ امرأته} ممّ استثني؛ وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله {لَمُنَجُّوهُمْ} وليس من الاستثاء في شيء؛ لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثاً، إلا اثنتين، إلا واحدة. وفي قول المقرّ: لفلان عليّ عشرة دراهم، إلا ثلاثة، إلا درهما. فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ {إِلا ءالَ لُوطٍ} متعلق بأرسلنا، أو بمجرمين، و{إِلاَّ امرأته} قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء. وقرئ: {لمنجوهم} بالتخفيف والتثقيل.
فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم.
فإن قلت: فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده- إلى أنفسهم، ولم يقولوا: قدّر الله؟ قلت: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه. وقرئ: {قدرنا}، بالتخفيف.